من عجائب سيد التابعين (أويس القرني) رضي الله عنه

روي عن الضحاك المخزومي أنه سمع هرم بن حيان العبدي قال: قدمت الكوفة ولم يكن لي هم إلا أويس القرني أطلبه وأسأل عنه حتى سقطت عليه جالسا وحده على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ ويغسل ثوبه، فعرفته بالنعت الذي نعت لي، فإذا رجل لحيم آدم شديد الأدمة محلوق الرأس كث اللحية عليه إزار من صوف ورداء من صوف كريه الوجه مهيب المنظر جدًا، فسلمت عليه فرد علي وقال : حياك الله من رجل، ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني فقلت: وأنت فحياك الله، ثم قلت: مرحبا بك يا أويس، كيف أنت رحمك الله؟ ثم سبقتني العبرة من حبي إياه ورقتي له إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت وبكي، ثم قال: وأنت فرحمك الله يا هرم بن حيان، كيف أنت يا أخي ومن دلك على؟ فقلت: الله، فقال: لا إله إلا الله (سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا). فتعجبت حين سماني وعرفني ولا والله ما رأيته قط ولا رآني. فقلت: ومن أين عرفتني وعرفت اسمي واسم أبي ووالله ما رأيتك قط قبل اليوم؟  ففقال : (نبأني العليم الخبير)، عَرفت روحي روحك حين کَلَمت نفسي نفسك، إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأحياء، إن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضا ويتحابون بروح الله عز وجل) وإن لم يلتقوا ويتعارفون ويتكلمون وإن نأت بهم الديار وتفرقت بهم المنازل. فقلت: حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أحفظه عنك، فقال: إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لي معه صحبة، ولكن رأيت رجالا قد رأوه، وبلغني من حديثه كبعض ما بلغكم، ولست أُحب أن أفتح هذا الباب على نفسي، لا أحب أن أكون محدثا ولا قاضيا ولا مفتيًا)، ففي النفس شغل عن الناس یا هرم بن حيان. فقلت: اقرأ على آيات من كتاب الله أسمعهن منك، فإني أحبك في الله حبا شديدا وادع لي بدعوات وأوصني بوصية أحفظها. فقام فأخذ بيدي ! فقال: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم، فشهقشهقة ثم بكى وقال : قال ربي، وأحق القول قول ربي وأصدق الحديث حديثه، وأحسن الكلام كلامه (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينها لاعبين ) حتى بلغ وإنه هوالعزيز الرحيم، ثم شهق شهقة ثم سكت. فنظرت إليه وأنا أحسب أن قد غشي عليه، ثم قال: يا هرم بن حيان، مات أبوك ويوشك أن تموت يا بن حيان، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، ومات آدم وماتت حواء یا بن حيان، ومات نوح وإبراهيم خليل الرحمن یا بن حيان، ومات موسى نجي الرحمن یا بن حيان، ومات داود خليفة الرحمن یا بن حيان، ومات محمد رسول الله یا بن حيان، ومات أبو بكر خليفة المسلمين، ومات أخي وصديقي  عمر بن الخطاب. ثم قال: واعمراه، رحم الله عمر، وعمر يومئذ حي. قال: فقلت: إن عمر حي لم يمت بعد. قال: قد نعاه إلي ربي إن كنت تفهم، قد علمت ما قل وأنا وأنت في الثرى وكأن قد. ثم صلى على النبي وسلم  ودعا بدعوات خفيفات، ثم قال: هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان، کتاب الله وبقايا الصالحين من المسلمين، نعيت لك نفسي ونفسك، فعليك بذكر الموت فلا يفارقن قلبك طرفة عين ما بقيت، وانصح لأهل ملتك جميعا، وإياك أن تفارق الجماعة فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار. ثم قال : إلهي إن هذا يزعم أنه يحبني فيك، وزارني من أجلك، اللهم عرفني وجهه في الجنة واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان، ورضه من الدنيا باليسير، وما أعطيته من الدنيا فيسره له واجعله لما تعطيه من نعمتك من الشاكرين، واجزه عني خير الجزاء. أستودعك الله يا هرم بن حيان والسلام عليك ورحمة الله، لا أراك بعد اليوم رحمك الله، فإني أكره الشهرة وأحب الوحدة، ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك  وإن لم ترني، فاذكرني وادع لي فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله . وفارقني يبكي وأبكي ، فجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك، فكم طلبته بعد ذلك وسألت عنه فما وجدت أحدًا يخبرني عنه.

المصدر:

كتاب عقلاء المجانين لأبي القاسم الحسن بن محمد بن حبيب ص ص 94-96